السبت، 31 أكتوبر 2009

من سوريا إلى القاهرة

رحلتي إلى مصر

عبد الله الطنطاوي

tantawi@odabasham.org



سافرت إلى مصر مرات ومرات، ومن يستغني عن (أمّ الدنيا) وعن عاصمة من عواصمها الكبيرة (القاهرة) ذات العشرين مليوناً من البشر، من المقيمين والزائرين في كل يوم. وكان لكل زيارة من زياراتي هذه طعمٌ يختلف عن سابقاتها، وعن لاحقاتها، وسوف أتحدّث اليوم عن زيارتي في شباط 1977 وكانت لأكثر من هدف، ليـس الآن ولا هنا مكان ذكرها، وقد تحدثت عنها في مكان آخر من الذكريات.

في دمشق

في شباط 1977 غادرت مدينتي الحبيبة (حلب الشهباء)، إلى دمشق، لأطير منها إلى القاهرة. وفي دمشق بتّ ليلة قبل سفري إلى القاهرة، زرت خلالها الصديق الأستاذ مدحت عكاش، رئيس تحرير مجلة (الثقافة) الدمشقية، وتعرفت في مكتبه إلى الأستاذ الحجار الذي كان سفير سورية في الهند، ثم عاد إلى دمشق، وأصدر كتابه اليتيم (تعريب النحو).

قدّم لي الأستاذ الحجار نسخة من كتابه الذي كان صدر قبل أيام، وقرأت على الغلاف: تقديم الأستاذ أحمد موسى سالم. فسألته عن مقدم الكتاب، فقد قرأت له كتاباً منذ بضعة أشهر، لم أتبيّن فيه هويته، هل هو إسلامي؟ قومي؟ اشتراكي؟ فقال الأستاذ الحجار:

- الأستاذ أحمد مفكر كبير من مصر، واسمه الأصلي: أحمد صبري شويمان.

قلت له:

- أعطني عنوانه، إذا سمحت، فأنا مسافر غداً إلى مصر، وأحبّ أن أتعرف إلى هذه الشخصية العجيبة، فقد قرأت لشويمان عدة كتب، كما قرأت الأعداد الثلاثة عشر التي أصدرها من مجلته (الأنصار) ولكن.. لماذا يكتب الآن بغير اسمه؟

قال: عندما تلتقيه، تستطيع أن تعرف.

ثم قال الأستاذ الحجار:

- هل تحمل معك عشر نسخ له؟

- بل.. أحمل مئة نسخة إن شئت.

وانتقلنا إلى بيت الأستاذ الحجار، بالقرب من ثانوية جودت الهاشمي، فشاهدت على الباب الحرس المدججين بالسلاح، ولكنه طمأنني وقال:

- هذا بيت ابني، وهو من المسؤولين الحسّاسين.. لا تخف..

وفي البيت جلست في (صالون) ضخم فخم، طويل عريض، فيه أثاث وزينات وتحف، فقال الأستاذ ضاحكاً:

- صالون يجري فيه الخيّال.. أليس كذلك؟

- ولكن الحصان سيكسر الثريات والتحفيات و.. إذا جرى..

فقاطعني بقوله:

- لا تكترث، فهو حصان اشتراكي مدرّب.

وكان الأستاذ الحجار لطيفاً جداً، دبلوماسياً دمثاً، خفيف الظلّ، لا يغادر نكتة، ولا يغادر محيّاه طيف ابتسامة ودود.. حدّثني عن الهند، وعن سبب إقالته وإحالته على التقاعد فقال:

- السبب نكتة.. نكتة بسيطة أعادتني إلى بلدي، لألتفت إلى كتبي وأوراقي. أمّا النكتة، فهي أنني كنت على موعد مع رئيسة الوزراء أنديرا غاندي، وجاءت أنديرا بعد خمس دقائق من الموعد، وهي في كامل مكياجها وزينتها، فنظرت إلى ساعتي وقلت مازحاً:

- يبدو أن السيدات لا يغادرن طباعهن في المكيجة والزينة، حتى ولو كنّ رئيسات وزارة، وحتى لو أخّرهنّ المكياج عن مواعيدهنّ؟

فنظرت رئيسة الوزراء في ساعتها وقالت:

- انتهت المقابلة.

ثم طلبت من الخارجية السورية سحبي من سفارتها في الهند، واهتبلها الخدّام فرصة ذهبية ليتخلّص مني، وكان خيراً، وكان هذا الكتاب الذي ستفرح بقراءته، لأنه نمط جديد في الكتابة والتفكير.

في المطار

في مطار دمشق الدولي وقفت في الطابور أمام الموظفة التي كانت تتلهّى بالحديث التافه مع زميل لها، يبدو أنه كان (يستلطفها) وكانت ضحكاتها تثير الواقفين أمامها في هوان، كأنها كانت تريد إذلال مَنْ أمامها من الناس، وكانت إذاعة المطار تنادي نداءاتها الأخيرة إلى المغادرين إلى القاهرة، والرتل طويل، والناس يحملون أثقالهم، ومع بعضهم نساء وأطفال، فصحتُ بها في شيء من نزق:

- مشّينا يا آنسة، تكسّرْنا من هذه الوقفة.

فانفجرت بصياح كصياح الجن في الليالي الحوالك، كما كنّا نتخيّل الجن وصياحهم وأشكالهم ونحن صغار. قالت:

- نحن هنا نموت من الشغل، لخدمتكم، وأنتم لا تصبرون على كلمة نتكلمها مع أحد الزملاء.. العمى..

- العمى في عينك إن شاء الله.. لسنا عبيداً لك ولا لأبيك .. أنت تعملين بأجر، وليس لوجه الله، ولا لخدمة المواطنين.. ثم.. كلميني أنا، فهؤلاء المساكين لا دخل لهم.. أنا أحتجّ وهم يسمعون.

وتوقّفت المسترجلة عن العمل، وتدخل الناس، وفضّوها بيننا، وقد اقترب موعد الإقلاع، وسلّمتني بطاقة السفر، وأسرعت إلى الطائرة، وقال لي رجل مسنّ ونحن في طريقنا إلى الطائرة: يسلّم فمك، ما قصّرت مع هذه السفيهة.

في القاهرة

كان في استقبالي في المطار أخي وصديقي أبو محمد الحامد.. أخذني إلى غرفته المستأجرة فوق سطح عمارة، وبعد استراحة يسيرة من طلعة الدرج الطويل، استأذنته في حلق لحيتي، فلم يردّ عليّ، فعدت أستأذنه مرة أخرى فقال لي:

- يا أخي تريد أن تعصي الله وأشاركك في المعصية؟! البيت بيتك ولا تستأذني في شيء.

ابتسمت، وحلقت لحيتي وشاربي، كعادتي في تلك الأيام العصيبة التي اضطرتنا إلى فعل ما نكره، ثم نزلنا واستأجرنا غرفة في فندق متواضع قريب من بيته.

قلت لصديقي الذي كان يلازمني في القاهرة (الأستاذ محمود الحامد):

- سنذهب إلى حلوان، لزيارة مفكر كبير هناك، أحمل له أمانة، واسمه أحمد صبري شويمان، وأريد أن أتعرَّف إليه عن قرب، لأعرف ما هو. هل تعرفه؟

قال:

- أنا لا علاقة لي بالأدباء، ولا أعرفهم.

وذهبنا إلى حلوان، وسألنا عن بنك الإسكندرية، فقد كان بيت الأستاذ شويمان فوق بنك الإسكندرية، وأدخلتنا الخادم إلى غرفة بسيطة، أي متواضعة، ولكن ترتيب أثاثها غريب..

كانت مفروشة بسجادة عادية، وفي الصدر ما ندعوه عندنا في حلب (دشك) أي طرحة، أي فرشة ممدودة على الأرض، وعليها وسائد، وعلى جداري الغرفة الجانبيين صُفَّت أرائك، وقد علقت على الجدار الذي في الصدر، صورة لشيخ عربي بلباس عربي، يتلاءم مع (الدشك) والوسائد، وعلى الجدار الأيمن صورة لجمال عبد الناصر.

بعد لحظات دخل الأستاذ أحمد، وهو شيخ في الستينيات من عمره، مربوع القامة، حنطي اللون، ممتلئ الجسم، يرتدي (الصاية) والصاية ثوب عربي مفتوح من أمام، يحوطه بحزام، وعلى رأسه منديل أبيض، وعقال مقصَّب.. رحَّب بنا، وعرَّفته على نفسي وعلى صديقي، ونقلت إليه تحيات الأستاذ الحجار، وقدَّمت له النسخ العشر من كتاب (تعريب النحو) ففرح بصدور الكتاب فرحاً ظاهراً وقال:

- هذا الكتاب سيكون فتحاً جديداً في عالم النحو العربي.. سوف يخلص العرب من نحو الأعاجم الذي كسروا به رؤوس الدارسين العرب منذ الأعجمي سيبويه حتى الغلاييني وعباس حسن.

فسألته:

- هل النحو العربي أو النحو الذي ندرسه ليس عربياً حتى نعرِّبه؟

أجاب في حدة:

- طبعاً ليس عربياً.. إنه نتاج أعجمي، والأعاجم سبب كل بلاء أصاب العروبة والإسلام.

فقال صديقي الأستاذ محمود:

- لا يا شيخ.. حرام عليك.. أين ذهبت بالإمام البخاري مثلاً؟

فانفجر الأستاذ أحمد انفجاراً ما كنت لأتوقعه من رجل في مثل سنه وعلمه، فشتم صاحبي، وشتم إمامه البخاري، فنهض صاحبي محتداً يصرخ، والأستاذ شويمان يصرخ، وأنا أحاجز بينهما، حتى هدّأتهما، فجلسنا جميعاً ننفخ من الغيظ، وأردت تغيير مجرى الحديث-كما يقال- فقلت له:

- قرأت مجلتك (الأنصار) وأعتقد أن كتّابها جميعاً هم كاتب واحد، هو أنت ، فما رأيك؟

قال:

- مجلتي توقَّفتْ في أواسط الخمسينيات، فكيف قرأتها؟ ومتى؟

قلت:

- أستاذي الدكتور محمود بابللي هو الذي..

فقاطعني:

- الشيخ محمود بابللي كان مندوبنا.. أين هو الآن؟ وما أحواله؟

فطمأنته على أحواله وصحته، وقلت له: إنه خبير اقتصادي في الرياض، ثم قلت له:

-ولكنك في العدد الأخير أعلنت عن إيقاف المجلة، وأنك وصحبك في جمعية الأنصار سوف تذهبون إلى الصحراء، وتعيشون في البادية كما كان يعيش العرب الأولون، ثم انقطعت أخبارك.

فاعتدل الأستاذ شويمان في جلسته فوق (الدشك) وقال:

- خرجنا إلى الصحراء، واشترينا بعض الشياه والنوق، ونصبنا الخيام، كما أعلنا في (الأنصار) وعلم الرئيس جمال عبد الناصر بذلك، فأرسل إلينا وفداً من مجلس الأمة، كان الرئيس السادات على رأسه، ورجانا أن نعود، وأمر الرئيس بتعييني عضواً في مجلس الأمة، فعدنا.

قلت له:

- وماذا عن تغيير اسمك يا سيدي؟ فنحن نعرفك باسم أحمد صبري شويمان، ولولا الأستاذ الحجار، ما عرفت أن أحمد موسى سالم هو نفسه أحمد صبري شويمان.

فقال:

-لهذا صلة بالأعاجم الذين يدافع عنهم صاحبك هذا..

وتحفز صاحبي للكلام، فرجوته أن يسكت، فسكت وهو ينفخ شواظاً من نار، وقال الأستاذ أحمد:

- أنا اسمي أحمد صبري.. اسم مركب على عادة الأعاجم من الأتراك، وعشيرتنا التي ننتسب إليها (شويمان) فصار اسمي أحمد صبري شويمان، ولكن، وبعد أن كبرت ووعيت وأدركت تقاليد الأعاجم، رفضت أن أستسلم لهم، فعدت إلى الأسلوب العربي الأصيل، وهو أن أدعى إلى أبي فجدي، واسم أبي موسى، واسم جدي سالم، فصرت أحمد موسى سالم، بعد أن حذفت أو عدلت عن التركيب في اسمي.. أليس هذا خيراً من سلوك مسلك الأعاجم الأوباش؟

ولم يكتف الأستاذ شويمان بهذا، بل شتم -من جديد- الإمام البخاري ومسلما وسائر العلماء من الأعاجم. فقلت له، لأهدئ من ثورة صاحبي:

- ولكن، يا أستاذ، كيف كنا نصلي لولا..

فصرخ:

- احذر أن تقول الإمام البخاري.. نحن نعترف على القرآن الكريم ونؤمن بما جاء فيه، ولا نعترف على سواه.. نصلي كما أمرنا القرآن.. أنا الآن أصلي وأنا معكم.. أم أنكم تريدونني أن أصلي على طريقة البخاري؟

قلت له:

- دعنا من هذا، وأريد أن أقول لك، أنا قرأت كتابك الكبير (رسالة في ضوء التوحيد) -أكثر من ثماني مئة صفحة- ورأيتك تقسو على الصوفية.

فقال في حدة:

- لأنهم كفار.. أخذوا من الوثنية، ومن اليهودية، ومن النصرانية، ومن الشيعة، ومن الزنادقة. وخلطوا بين هذه وتلك، ثم جاؤونا بهذه العجينة المنتنة التي أسموها صوفية.. وهذا كله من فعل الأعاجم.. من فعل إمام صاحبك هذا.. من فعل البخاري الــ.. وسواه من الأعاجم.

ونهض صاحبي محتداً وقال:

- أنا لا يمكن أن أبقى في بيت يكفر فيه..

فقال الأستاذ:

- اخرج لا ردَّك الله.. أنا ما دعوتك، وأنت لست ضيفي.. عبد الله وحده ضيفي..

وبذلت جهدا الله وحده به عليم، حتى هدأتهما، ثم قلت:

- دعوتك هذه إلى العروبة، تشبه، في مسارها العام، دعوة حزب البعث في بلاد الشام.

فانتفض محتجاً وقال:

- اسمع.. زرت دمشق سنة 1949 ونزلت في فندق (أوريان بالاس) قرب محطة الحجاز. وجاءني الأستاذ ميشيل عفلق والأستاذ صلاح البيطار زائرين، ثم دعواني إلى غداء عمل في (دمر) وخرجنا في اليوم التالي إلى جنة الله في أرضه.. إلى دمر، وتمليت ذلك الجمال العجيب، ودعوت الله أن يرزقني مثله في الجنة..

وأفاض الأستاذ شويمان في وصف جمال دمر، وغبطنا على ما حبا الله بلاد الشام من جمال أخاذ، من أنهار وأشجار ومناخ، ومن... ثم قال:

- ونحن على الغداء، قال لي الأستاذ صلاح البيطار:

- يا أستاذ أحمد، أنت في (جمعية الأنصار) تدعو إلى العروبة، ونحن هنا في حزب البعث ندعو إلى العروبة، فما رأيك في توحيد الجمعية والحزب، بضمها إلى حزب البعث، وتكون أنت رئيس الحزب في مصر بل في الشمال الإفريقي كله، ونحن هنا في بلاد الشام والعراق مسؤولون عن الحزب؟

فقلت له:

- ولكن العروبة التي أدعو إليها، غير العروبة التي تدعون إليها.. أنا أدعو إلى العروبة المؤمنة، وأنتم ملاحدة.

فانتفض الأستاذ ميشيل الذي كان ملازماً الصمت، وقال:

- لا يا أستاذ.. أنا أحتج.. أنا لست ملحداً.

فقلت له بهدوء:

- فعلاً يا أستاذ ميشيل، أنت لست ملحداً، ولكن الأستاذ صلاح ملحد.

فسكت الأستاذ ميشيل، ولم يحتج الأستاذ صلاح البيطار..

ثم قال:

هل فيما رويت لك جواب على زعمك بأن دعوتي إلى العروبة كدعوة البعثيين عندكم؟

هذا بعض ما حدث في تلك الجلسة الصاخبة التي استمرت أكثر من ساعة، والتي ما رويت منها إلا القليل، لأنني لا أستطيع أن أذكر إلا الخلاصات التي تسمح الصحافة بنشرها، وقد تكون لنا عودة إلى رأيه في القصة والمسرحية، وعن رأيه في كبار الكتاب المصريين، كطه حسين، والحكيم والعقاد ومحمود شاكر والرافعي وسيد قطب وحسن البنا وسواهم من الشخصيات المصرية، السياسية والفكرية والأدبية.. أكتفي الآن بهذا، ترويحاً عن النفوس المأزومة، في هذا العصر الذي يحار المرء في وصفه، ويعاف الكثير من جوانبه، هرباً، وقرفاً، وضعف قلب، ووهن أعصاب.

وقبل أن نودع الأستاذ أحمد، جاءني بمجموعة من كتبه، وكتب على بعضها إهداء، ولم يهد صديقي ورفيقي إليه أي كتاب، فقلت له:

- والأستاذ محمود؟ ألا تهديه كتبك؟

فنظر إليه شذراً وقال:

- هو لا يريد كتبي.. هو من جماعة حسن البنا.

فسألت صديقي:

- ألا تريد كتب الأستاذ؟

قال صديقي:

- بلى.. أريدها.

فجاءه الأستاذ أحمد ببعضها، وقدمها إليه، ولم يكتب أي إهداء عليها. قلت له:

- ألا تكتب له إهداء؟

قال في تقطيب:

- أنا أكتب لأصدقائي، وضيوفي.

وخرجنا من عنده ونحن متوتران، وقال لي صاحبي:

- والله هذه الساعة عند هذا الشيخ، كانت أقسى ساعة تمر بي في حياتي


(نقلها صالح يوسف شرف الدين)

الجمعة، 23 أكتوبر 2009

التمس لأخيك سبعين عذرا

التمس لاخيك المسلم سبعين عذرا........*



ليس أريح لقلب العبد في هذه الحياة ولا أسعد لنفسه من حسن الظن
فبه يسلم من أذى الخواطر المقلقة التي تؤذي النفس، وتكدر البال، وتتعب الجسد.

إن حسن الظن يؤدي إلى سلامة الصدر وتدعيم روابط الألفة والمحبة بين المسلمين

فلا تحمل الصدور غلاًّ ولا حقدًا ، امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم :

فعن أبي هريرة قال، قال رسول الله :
"إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا"رواه الإمام مالك والبخاري ومسلم واللفظ لمسلم.وإذا كان المسلمين بهذه الصورة المشرقة فإن أعداءهم لا يطمعون فيهم أبدًا

ولن يستطيعوا أن يتبعوا معهم سياستهم المعروفة
فرِّق تَسُد ؛ لأن القلوب متآلفة، والنفوس صافية.

من الأسباب المعينة على حُسن الظن:

هناك العديد من الأسباب التي تعين المسلم على إحسان الظن بالآخرين، ومن هذه الأسباب:

(1) الدعاء:

فإنه باب كل خير، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يرزقه قلبًا سليمًا.

(2) إنزال النفس منزلة الغير:

فلو أن كل واحد منا عند صدور فعل أو قول من أخيه وضع نفسه مكانه

لحمله ذلك على إحسان الظن بالآخرين، وقد وجه الله عباده لهذا المعنى حين قال سبحانه:
{لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} [النور:12].
وأشعر الله عباده المؤمنين أنهم كيان واحد ،
حتى إن الواحد حين يلقى أخاه ويسلم عليه فكأنما يسلم على نفسه:
{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور:61].

(3) حمل الكلام على أحسن المحامل:

هكذا كان دأب السلف رضي الله عنهم ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

“لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً”.

وانظر إلى الإمام الشافعي رحمه الله حين مرض وأتاه بعض إخوانه يعوده،

فقال للشافعي: قوى الله ضعفك، قال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني ،
قال: والله ما أردت إلا الخير. فقال الإمام: أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير.
فهكذا تكون الأخوة الحقيقية إحسان الظن بالإخوان حتى فيما يظهر أنه لا يحتمل وجها من أوجه الخير.

(4) التماس الأعذار للآخرين:

فعند صدور قول أو فعل يسبب لك ضيقًا أو حزنًا حاول التماس الأعذار،

واستحضر حال الصالحين الذين كانوا يحسنون الظن ويلتمسون المعاذير
حتى قال الامام الشافعى: التمس لأخيك سبعين عذراً.

وقال ابن سيرين رحمه الله: ” إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا ،

فإن لم تجد فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه “.

إنك حين تجتهد في التماس الأعذار ستريح نفسك من عناء الظن السيئ وستتجنب الإكثار من اللوم لإخوانك:

تأن ولا تعجل بلومك صاحبًا .. … .. لعل له عذرًا وأنت تلوم

(5) تجنب الحكم على النيات:

وهذا من أعظم أسباب حسن الظن؛ حيث يترك العبد السرائر إلى الذي يعلمها وحده سبحانه،

والله لم يأمرنا بشق الصدور، ولنتجنب الظن السيئ.

(6) استحضار آفات سوء الظن:

فمن ساء ظنه بالناس كان في تعب وهم لا ينقضي فضلاً عن خسارته لكل من يخالطه

حتى أقرب الناس إليه ؛ إذ من عادة الناس الخطأ ولو من غير قصد ،
ثم إن من آفات سوء الظن أنه يحمل صاحبه على اتهام الآخرين ، مع إحسان الظن بنفسه،
وهو نوع من تزكية النفس التي نهى الله عنها في كتابه:
{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
وأنكر سبحانه على اليهود هذا المسلك:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:49].
إن إحسان الظن بالناس يحتاج إلى كثير من مجاهدة النفس لحملها على ذلك،

خاصة وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولا يكاد يفتر عن التفريق بين المؤمنين
والتحريش بينهم، وأعظم أسباب قطع الطريق على الشيطان هو إحسان الظن بالمسلمين.

رزقنا الله قلوبًا سليمة، وأعاننا على إحسان الظن بإخواننا،

والحمد لله رب العالمين

((منقول وليجز الله الكاتب خير الجزاء))